بقلم / محمود كرمي – باحث في الشئون الأفريقية
الولايات المتحدة في 1863 و بعد إعلان تحرير العبيد ، ظهر بعض المتطرفون البيض و قد نظموا أنفسهم ضمن مجموعات لمناهضة تحرير العبيد ، ثم لمناهضة مساواة الملونين مع البيض ، و عملوا ضد القوانين التي تسمح لذوي الأصل الأفريقي بالعمل و السكن مع البيض . و أكثر هذه التجمعات المتطرفة شهرة كانت الـ KKK أوKu Klux Klan ، إذ بدأوا أعمالهم الإرهابية مباشرة بعد إعلان التحرير في 1863 .
كان أعضاء هذا التجمع الإرهابي يلبسون ثيابا بيضاء فضفاضة و قبعات بيضاء مثلثة تغطي وجوههم ، و أغلب نشاطهم ضمن مناطق القرى و المدن الصغيرة حيث البسطاء من ذوي الأصل الأفريقي . فكانوا يدعون أنهم أرواح مقاتلي الجنوب الذين قضوا في الحرب الأهلية و كانوا أثناء غاراتهم يقومون بالقتل و إحراق المنازل – أحيانا بمن فيها – لدرجة أن تسببوا بنزوح كثير من هؤلاء عن أملاكهم .

غير أن الرئيس الأمريكي غرانت (1869-1877) تمكن من ملاحقة هذه الجماعة و القضاء على تنظيمها . غير أنهم عادوا في 1915 ليؤسسوا جمعيتهم مجددا ، و ظلوا نشطين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 . لكنهم أضافوا إلى قائمة المستهدفين ممن يحاربونهم ، الهنود و الكاثوليك و الشيوعيين و المهاجرين . إرتفعت شعبية ذلك التنظيم الإرهابي بين البيض الجنوبيين مع صدور فيلم “مولد الأمة” The Birth of a Nation في 1915 للمخرج دافيد وارك جريفيث (ت-1948) . و هذا الأخير هو إبن لأحد ضباط الجنوب في الحرب الاهلية الأمريكية ، و من ثم عانى من إضطهاد الشماليين فترة ما بعد الحرب أو (حقبة إعادة الإعمار) .
الفيلم من الأفلام الصامتة . و هو في الأصل قصة لتوماس ديكسون بعنوان “زعيم العشيرة” The Clansman أو عضو الكلان كما في بعض المراجع ، و هو الاسم الذي أطلق على الفيلم بداية عرضه ، و تغير لاحقا إلى “مولد أمة” بعد ثلاثة أشهر من العرض الأول بناء على إقتراح توماس ديكسون مؤلف الرواية . البطولة لكل من : ليليان جيش و ماري مارس ، و هنري والثال ، و ميريام كووبر ، و ماري ألدن .

يظهر الفيلم بشيء من المبالغة أنواع الإضطهاد الذي تعرض له الجنوبيين فترة ما بعد الحرب الباردة ، كما يمثل ذوي الأصول الأفريقية في أمريكا على أنهم منتصرين متعجرفين ، و لاحقا عندما يصبح بعضهم نوابا لإحدى الولايات الجنوبية (عن طريق التزوير) ، و يجلسون في مكاتبهم يظهرون الكثير من السلوك الفظ . كما صورهم الفيلم على أنهم ناشطين جنسيا يريدون إشباع رغباتهم بالقوة ، فأحد المشاهد تصور أحد السود يحاول إغتصاب إحدى بطلتي الفيلم (إلزي) و التي تهرب منه في الغابة إلى أن تصل لحافة هاوية فتهدد بإلقاء نفسها لكنه لم يرتدع ، فتلقي بنفسها و تنتحر ، و هنا يبرز دور أعضاء الـ KKK الذين يبحثون عن الفاعل فيتوصلوا إليه و يقتلوه . و موقف آخر يحاول فيه ضابط أفريقي لأحد الميليشيات إجبار بطلة الفيلم (فلورا كاميرون) البيضاء على الزواج منه ، لكن يتم إنقاذها على يد أعضاء الـ KKK . و في مجمل الفيلم يظهر أعضاء المنظمة على أنهم منقذي المدينة من تجاوزات الأفرو-أمريكيين ، من خلال عمليات الرعب التي مارسوها عليهم .
و بنهاية الفيلم عبارة “الحرية و الإتحاد ، واحد لا يتجزأ ، الآن و إلى الأبد” ، في إشارة إلى دمج الشمال و الجنوب الأمريكي في إتحاد واحد . تعرض الفيلم للإنتقاد الشديد من قبل الرابطة الوطنية لتقدم الملونين NAACP (تأسست-1909) ، و كانت تأسست أصلا لمناهضة القوانين و الممارسات ذات النزعة العنصرية خاصة في الولايات الجنوبية . كما أثار موجة من العنف العنصري في أنحاء متفرقة من الولايات المتحدة ، لدرجة أن بعض المدن رفضت عرضه تجنبا لإثارة الإحتجاجات و أعمال العنف مثل شيكاغو و بيتسبرج و سانت لويس .
و فيما يلي نشير بصورة مختصرة لأهم الظروف و الحوادث العامة المعاصرة لفترة الفيلم ، ما أدى إلى إشاعة أجواء التوتر و الإضطرابات في الولايات المتحدة .
في البدء كانت حركة الوعي العنصري بين القلة المثقفة من ذوي الأصول الأفريقية قد بدأت في أمريكا و جزر الهند الغربية (في الكاريبي) . و التي كانت تعبيرا عن التضامن الأخوي بين الأمريكيين من أصول أفريقية . و تزعم الحركة الدكتور دي بوى Du Bois ، و كانت كتاباته منذ 1900 موجهة لطليعة المثقفين و نادى بالمساواة و الإستيعاب للسود داخل المجتمع الأمريكي ، و على النقيض كان هناك ماركوس جارفي Marcus Garvey الذي عرف في الولايات المتحدة “بالمسيح الأسود” ، و أدت حركته الشعبية إلى إثارة المثقفين بل و الإدارة الأمريكية . حيث كانت أفكاره ترفض مسألة إستيعاب الأفارقة داخل المجتمعات الأوربية و الأمريكية و ترفض المساواة ، لكن نادى بالتفوق العنصري للسود ، و إقامة عنصرية سوداء في مقابل العنصرية البيضاء . كما اقترح إنشاء “البيت الأسود” في مقابل “البيت الأبيض” . و ذهب في ثوريته إلى حد التطرف ، و دخل في تعاون مع الجمعية البيضاء الإرهابية Ku Klux Klan و استهدف التخلص من السود المعارضين ، و كان هذا التعاون قد أضعف حركته الشعبية .

كذلك كان وصول ويدرو ويلسون إلى رئاسة الولايات المتحدة 1913 وبالا على الأمريكيين من أصول أفريقية ، فهو أول جنوبي يصل لرئاسة الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الأهلية 1865 ، و قد أعاد كل ما حصل عليه السود من إندماج – على الرغم من قلته – في المجتمع الأمريكي منذ نهاية الحرب الأهلية إلى نقطة الصفر ، كما عين بين مسؤولي حكومته بعض الجنوبيين المعروفين بتحيزهم ضد السود ، و هؤلاء قاموا بدورهم بتخفيف عدد الموظفين السود في المؤسسات لصالح البيض.

و قد علق ويسلون نفسه على الفيلم بعد عرضه في البيت الأبيض “و كأن التاريخ تمت كتابته ببرق العاصفة ، أسفي الوحيد أن كل ما فيه جد صحيح” . إضافة لما سبق فإن الرئيس ويلسون نفسه أشار – في وقت سابق على توليه الرئاسة – إلى جماعة الـ KKK بأنها شكلت إمبراطورية الجنوب . و أن مؤسسيها دفعتهم غريزة الحفاظ على النفس إلى التخلص من عبء الحكومات المدعومة بأصوات الجهلاء السود . و هذه الفكرة تظهر في إحدى العبارات على الشاشة : “إجتمع في النهاية الأعداء القدامى – الشماليين و الجنوبيين – للدفاع عن حق عرقهم الآري الذي اكتسبوه عند الولادة” . يعد “مولد أمة” أحد أكثر الأفلام إثارة للجدل في تاريخ السينما الأمريكية ، رغم كونه من أفلام البدايات ، و مع كل الإحتجاجات و المشكلات التي عاصرت عرضه فقد أسهمت في زيادة المشاهدة و تحقيق النجاح الجماهيري غير المسبوق وفقا لمعايير ذلك الوقت . أبرز الفيلم إمكانية تأثير السينما في الوسط الإجتماعي بصورة كبيرة رغم قلة تكنولوجيا الإتصالات في بداية القرن العشرين . كما إدراك مستخدمي أدوات الدعاية أهمية المسائل و القضايا الكبرى و مدى تأثيرها في مسيرة الإنسانية . إنهم يملكون الأفكار و الرؤى ، و يستخدمون الصور للتأثير على الجمهو

محمود كرمي – باحث في الشئون الأفريقية