الجو معبأ بالدخان ، ضوضاء تصم الآذان ، قمامة في كل مكان ، طرق لا تصلح للحيوان ، إنتهاكات بشتى الألوان ، إمتهان لكرامة الإنسان ، هذا هو الشارع في بلدي ” أم الأوطان “…
مشاهد مكررة ، وأمور مقررة ، لايكاد يخلو منها شارع من شوارعنا ، لدرجة اننا الفناها فلم تعد تلك المناظر تزعجنا ولا هذه المهازل تؤلمنا، تبلدت مشاعرنا وتبدلت معاييرنا ، فبات القبح سمة غالبة والجمال قيمة غائبة ، خليط ومزيج تصطدم به بمجرد نزولك من بيتك كل يوم…
وفي مرة من هذه المرات التي أمضي فيها من منزلي إلى عملي مارا على مقالب القمامة مستنشقا دخانها ومتفاديا – قدر استطاعتي وبما اكتسبته من خبرة – التكاتك التي تسير عكس اتجاه الطريق ، وكلما تعثرت في حجر أو كدت أسقط في أحدى الحفر ، تذكرت قول الفاروق عمر… ” والله لو أن ناقة عثرت في العراق لسألني الله عنها لما لم تمهد لها الطريق “.
وأدركت مدى الهوان الذي بلغناه ، أن تكون الدواب أفضل حال منا ، وهل كان يتخيل عمر رضي الله عنه ، يوم قال هذه المقولة أنه سيأتي يوما علينا تكون فيه حقوق الحيوان أقصى أمانينا ، وسألت نفسي سؤالا ، أو قل عدة أسئلة أو مئات الأسئلة ، ما هذا ؟ كيف وصلنا بشوارعنا الى هذا الحد ؟ و هل شوارعنا إنعكاس لأخلاقنا أم أن أخلاقنا إنعكاس لشوارعنا ؟ أيهم الأصل وأيهم الصورة ؟ أي منطق أستطاع أن يقنعنا أن الحياة بجوار القمامة أمر طبيعي لا بأس به ؟ أي قانون أعطاك الحق لتغلق الشوارع بسبب وبدون سبب ؟ في أي دولة في العالم تكون الأسواق في الشوارع وتحت البيوت ؟ أي ثقافات أفسدت أذواقنا وشوهت نفوسنا لهذا الحد ؟ ما الذي بإمكانك أن تفعله لتقنع إنسان بل شعب بأكلمه أن ينحدر بأخلاقه الى مراتب الحيوان – مع الأعتذار لناقة عمر- فهي أوفر حظا منا ؟ والمفارقة هنا انه ليس مجرد شعب وحسب ، إنما هو شعب علم الدنيا الحضارة والفن والجمال ، فقد عبدت شوارعنا عندما كانت أوروبا تسير في الطين ، وأضيئت طرقاتنا بالمصابيح وهم يتخبطون في ظلمات الليل والجهل ، وبرغم بساطة الأسئلة في ظاهرها الا أن الأجابة عليها تكاد تكون مستحيلة ، فأنت تواجه في رحتلك للإجابة على هذه الأسئلة معضلة إنسانية ، وأنتكاسة بشرية ، أظنها نادرة أن لم تكن متفردة في تاريخ التجارب الحضارية ، وقررت بيني وبين نفسي أن أجد إجابات لأسئلتي.
وأول سؤال حاولت أن أجد له إجابة سؤال بسيط جدا وبديهي ، ما معنى كلمة “شارع” ؟ وبعد البحث عرفت أن تعريف كلمة “شارع” التي اتفقت عليها كل لغات العالم فضلا عن قوانينها بأنه هو : أصطلاحا : “ممر ذو ملكية عامة”… ولغة : “يربط بين نشاطات الناس ويؤمن التفاعل ويربط الطرق بين البلدات والمدن” ، و”للشارع وظيفة خدمة الأفراد” ، و”الشارع الرئيسي تتم الحركة فيه بالأتجاهين بشكل مفصول كليا عن طريق جزيرة وسطية ، وتؤمن حركة المشاة على جانبيه عن طريق الأرصفة ، بالإضافة أنه طريق يسلكه المارة ويعبرون خلاله” ، وهو “طريق عام وقد يكون على جانبيه أو أحدهما بيوت وعمارات” ، وهو “طريق نافذ يسلكه جميع الناس” ، وبعيدا عن ما تبدو عليه هذه التعريفات من بعد عن واقعنا أو كأنها ضربا من خيال لا يصدق ، لما تنطوي عليه من تناقض رهيب بين تعريفها وواقعنا ، فقد تظن في البداية أنك تقرأ تعريفا خاطئا لمفهوم “الشارع” ، أو أن ما نراه في بلادنا ليست شوارع ، وبالتأكيد فإن ما نطلق عليه – مجازا – شارع هو شئ لا يتفق مع التعريف الا في الأسم فقط ، أما من جهة المضمون فهو أبعد ما يكون عن الإستخدام الأدمي وأكتشفت أننا نجهل أصلا معنى كلمة شارع وما هي أوجه إستخداماته ، وللشارع تعريفه وأدابه أيضا في شريعتنا الإسلامية وهي وصية ” رسول الله صلى الله عليه وسلم ” التي قال فيها “إياكم والجلوس في الطرقات ، قالوا : يارسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ، قال : فأما إذا أبيتم إلا المجلس ، فاعطوا الطريق حقه ، قالوا يارسول الله فما حق الطريق ؟ قال : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
“إذا فقد أجتمع القانون والعرف والدين على تعريف الشارع ، وعلى حرمة الطريق ، فبأي قانون نلتزم ، وبأي قيم نحتشم ، ولأي دين نحتكم ، عندما تأول شوارعنا الى ما آلت اليه ، وتصبح على ما أصبحت عليه ، من إنتهاكات وممارسات غير أخلاقية ، وتعدي على حقوق الغير ، فهل من الطبيعي مثلا أن تغلق شوارع بأكملها لمجرد أن مجموعة من الناس قرروا فجأة أن يمارسوا بعض طقوسهم من رقص وطبل وأصوات عالية وحركات هيستيرية تنم عن أمراض نفسية وعصبية ، وتدل على مدى الإسفاف والتفاهه التى وصلنا اليها – وأنا هنا لست بصدد الكلام عن هذه الأمراض النفسية ولا عن السلوكيات الغير أخلاقية التى طرأت علينا ، فسوف أفرد لها مقال آخر إن شاء الله – أما ما أتحدث عنه هو حقي في هذا الطريق الذي سلبته مني ، من أجل ممارسة طقوسك تلك ، والتي تسمى في بلدي “أفراح” بأشكالها المختلفة فقد تكون “حنة” أو “شبكة” أو “تنجيد” …الخ ، فأي مبرر مهما بلغت تفاهته فهو كافي لغلق الشوارع ، ولأن يفرض عليك طقوسه بكل ما تحويه من تلوث سمعي وبصري وحسي ، وغالبا ما تستمر هذه الضوضاء حتى مطلع الفجر ، ضاربين بكل حق من حقوقك ، من نوم أو مذاكرة أو مرض ، عرض الحائط ، ويجب عليك أن تشاطره هذه الفرحة شئت أم أبيت ، ومن العيب الخروج عن الذوق ومخالفة التقاليد ، أن تبدي أي أعتراض ، وقبل أن يستقر به المقام في “الكوشة” لا ننسى “الزفة” ذلك الموكب المهيب الذي يجوبون به شوارع المدينة بسياراتهم وموتوسيكلاتهم وصواريخهم ، ليغلقوا الطريق أمامك مرة أخرى بمنتهى الإستهتار ، وتجد مجموعة من الكائنات هم أقرب الي ” الزومبي ” منهم الى الإنسان ، تنزل من السيارت ليؤدوا طقوسهم وشعوذاتهم الهيستيرية أمام سيارتك ، وكأن لسان حالهم يقول لك ” لو راجل أتكلم ” ويظل الطريق مغلق حتى يشعروا أنهم حققوا هدفهم من قهرهك وذلك ، ولا يقتصر الأمر على الأفراح وحسب ، إنما أيضا نراه في سرادقات العزاء ، والتى لا تختلف كثيرا عن الأفراح ، اللهم في بعض التفاصيل البسيطة ، فتجده هو نفس الشخص الراقص ، ولكنه هنا في حالة من السكون والوقار تفرضه عليه طبيعة الموقف ، ولكن حزنه لم يثنيه عن هدفه الأسمى وهو “غلق الشارع” ولإصراره الشديد على صم أذنيك سواء في فرحته أو في مصيبته ، فتجده وقد أحضر مقرئ ليقرأ القرآن – والقرآن منه براء – أو قل إن أردت الدقة ليستعرض قوة حنجرته ، فالقرآن سماع وتدبر ، لا إزعاج وتضجر ، ومرة أخرى تجد نفسك مضطرا لأن تشاطره أحزانه وأن تظهر حزنك وأسفك على الفقيد وإن كنت تدعو عليه وعلى نسله في سرك ، وللأسف الشديد أمتد تعدينا على الطريق وانتهاك حقوقه حتى في عبادتنا ، فصلاة العيد مثلا يجب أن تكون في “ساحة” وأقول في ساحة ، لا في طريق وان كان لابد أن تكون في طريق فيجب أن تترك ممرات لعبور الناس والسيارات ، فصلاة العيد والجمعة مظهر ودعوة للدين ، وبكل أسف فقد حولها البعض الى مظهر للتنفير من الدين ، وبغض النظر عن وجهة نظري في تلك الممارسات فهي فالنهاية مجرد وجهة نظر ، أما ما لا يمكن التغاضي عنه فهو حقي في هذا المكان الذي تتم فيه تلك الممارسات ، فمن حقك أن تمارس حقوقك أيا كان شكلها ، ومن حقي أيضا أن أمر ، هذا هو الأمر بمنتهى البساطة بدون فلسفة ولا تعقيدات ….
الى الأن فنحن نناقش مشكلة – برغم خطورتها و صعوبتها – فقد تجد لها تفسير وقد يكون لها حل ، وقد يحتج صاحبها بأي مبررات… أما أن تغلق الشوارع ، وتقطع الطرقات ، وتسد المنافذ ، بأكوام من القمامة ، فهذا ما لم أجد له مبرر ولم أعرف له تفسير ، وأن يصل بك الهوان لأن تخوض بقدميك في القمامة لتعبر الطريق ، وأن يبلغ بك الأمتهان أن تزكم أنفك رائحتها وتستنشق وأنت في بيتك دخانها ، فأعتقد هنا أن الأمر قد تخطى بكثير كونه مشكلة وتجاوز حد المعضلة ، ووصل الى حد الكارثة البشرية ، والأنتكاسة الآدمية ، وأعتقد أن مثل هذه الكارثة الحضارية بحاجة الى أطباء نفسيين وخبراء في علم النفس والأجتماع ، ورجال دين ومفكرين وفلاسفة ، ليضعوا تفسيرا لهذه الظاهرة…
– وفي نهاية بحثي وصلت لتعريف ” للشارع ” وهو خاص بنا نحن و يختلف عن كل تعاريف العالم وهو ” دار مناسبات كبيرة ومجانية متاحة في جميع الأيام وفي كل الساعات ولا تلتزم فيه بأي شكليات أو ذوقيات ، فيتاح لك مثلا أن تأكل وتلقى بفضلاتك تحت قدميك ، ويباح فيه أيضا تناول المخدرات والكحوليات بحرية شديدة ” وهو أيضا ” مكان كبير ومقسم طبيعيا تقام فيه الأسواق بتنوعاتها المختلفة من أسواق خضروات وفواكه وملابس وحتى مواشي وأغنام ، ويتميز بأنه لا يخضع لأي رقابة حكومية ” بالإضافة أنه ” سلة مهملات عملاقة تتسع لألاف الأطنان من القمامة ، والتى يقوم عمال مختصون بأعادة تصنيفها وتوزيعها ، بإخراج محتويات الأكياس وتطويحها في كل مكان ، بحثا عن البلاستيك أو الكرتون ” وأيضا ” دورة مياة عامة ، تتوفر فيها الشروط الصحية كالتهوية والشمس ، ويتاح لك أختيار المكان المناسب لك ولحالتك ، ولكن ينصح بأسفل الكباري لما تتميز به من خصوصية أكبر ، ويعيبه انه للرجال فقط فلم تخصص حتى الآن أماكن للسيدات ” وكذلك هو ” مكان به أرصفة يستخدمها بعض الشباب الطامحين من أصحاب المقومات الأجرامية كوسيلة كسب مادي ، من خلال تأجيرها للسيارت ، رغم أنف أصحابها ” وكذلك هو ” طريق ذو إتجاهين ، يفصلهم رصيف يستخدمه المحافظون من الناس لوضع القمامة بدلا من القاؤها في الطريق ، و تسير فيه المركبات بكافة أشكالها وأحجامها بداية من التوكتوك وحتى المقطورة ولا يشترط فيه الإلتزام بإتجاه معين ولا بالحارة المرورية ” و ” من حق أصحاب المحلات أو الأكشاك أو أي نشاط مهما كان تافها ، ان يضع حجارة أوخوازيق حديدية أمام محل نشاطه ، ولايجرؤ أحد على انتهاك هذا الحق المكتسب ، كذلك يحق لصاحب النشاط أن يخرج جميع محتويات محله في منتصف الطريق كوسيلة إعلانية ، أما أصحاب المقاهي فيتميزون ببعض الصلاحيات الإضافية ، فمن حقه وضع الكراسي في اي مكان يحلو له دون الإلتزام بإتجاه معين ، فقد يضعهم أمام المقهى او في الناحية المقابلة من الشارع أو على الرصيف في منتصف الطريق أو كلهم مجتمعين ، ومن حقه أيضا أستخدام مكبرات الصوت في أي وقت ، وله حق غلق الطريق في حالات مباريات كرة القدم “……
هذا – وبكل أسف – واقعنا ….. وهذه – وبكل أسى – شوارعنا …..