أخبار عامة

ثقافة الأيدي المتسخة…

الأيدي المتسخة

لطالما راودني سؤال ملح، في كل مرة أذهب فيها الى الميكانيكي، أو إلى السمكري، أو عندما أتعامل مع أي صاحب حرفة أيا ما كانت حرفته أو صنعته، لماذا أراه دائما متسخا، لماذا أجد ملابسه ويديه متسخين بإستمرار، حتى باتت صفة الإتساخ صفة ملازمة وملاصقة لأي صاحب حرفة و أصبحت جزء لا يتجزأ من شخصيته، وركن أساسي من تمام حرفته، وكأنه لو أرتدى ملابس مخصصة ومناسبة لحرفته وأرتدى قفازا في يديه مثلا ليحافظ على نظافته سيصفه الناس بوصف معيب، فلا هو يحافظ على نظافته ولا على سلامته، فإجراءات السلامة بالنسبة للعامل المصري إهانة لا يقبلها لنفسه أبدا، ففي قاموس الحرفي أو العامل المصري، الخوذة “خوف”، والحذاء السيفتي “حنتفة”، والقفازات “مياصة”…

والغريب في الأمر والمؤسف في نفس الوقت، أننا أصبحنا نتعامل مع هذا الحرفي بإعتباره مواطن درجة ثانية، وننظر اليه نظرة دونية، ولما لا وقد أقتصرت هذه الحرف على غير المتعلمين والفاشلين، فمصير كل طفل لم يكمل تعليمه هو الذهاب الى أي ورشة ليتعلم صنعة وحرفة، وطبيعي أيضا أن يشعر هذا الطفل بالنقص، وأن يشعر بالحقد تجاه أقرانه اللذين أكملوا تعليمهم، وبدلا من أن يتباهي بأنه صاحب صنعة وحرفة أصبح يشعر بالخجل إن سأله أحدهم ما مهنتك، وبات طبيعيا أن تكون أحدى وسائل التهديد الناجحة لإبنك عندما يتكاسل في واجباته أن تهدده بــ ” والله لو ماذاكرتش لأرميك في أي ورشة”…

 

و على الرغم من أحتياجك الشديد أنت شخصيا لهذه الورش إلا أنك تهدده بها، ومن أدراك أليس من الوارد أن تكون مهارات إبنك يدوية، وميوله حرفية، ولكن الوجاهة الإجتماعية تأبى علينا ذلك بكل تأكيد، فنحن نعلمهم ليكونوا أطباء ومهندسين ويظهر هذا بشكل كوميدي ساخر في كل الزيارات العائلية عندما يتباهي الأباء بأبنائهم “قول لعمو نفسك تطلع أيه؟” وطبعا الأولاد حافظين “دكتور” “مهندس” “طيار” ثم… قهقهة متخلفة من الجميع، فرحا بهذه الإجابات التي أرضت غبائهم، مأساة مملة ومتكررة وسخيفة، وفي النهاية تسعين في المائة من هؤلاء الأطفال إما تجارة إنتساب أو حقوق، وكان الله بالسر عليم، فإحتياجنا الي أي عامل أو حرفي لا يقل عن إحتياجنا للطبيب أو المهندس أو الطيار…

هذا الحرفي بكل بساطة مواطن كأي مواطن له ما له وعليه ما عليه، يمارس عمله بطريقة أعتيادية ربما يكون ماهرا فيها أو فاشل مثله في هذا مثل أي موظف أو طبيب أو مهندس، مدى إحترافه وإتقانه في مهنته هو ما يميزه، لا ملابسه ولا طريقة كلامه، ولا مستوى تعليمه، ولا مكانته الإجتماعية، إذن فالسؤال لماذا هو دونا عن كل هؤلاء يجب أن يكون متسخا، فحرفته أو صنعته تلك سواء كان ميكانيكي أو سمكري أو كهربائي أو نقاش…. الخ، لا تقل أهميتها عن مهنة أي واحد من هؤلاء الذين يرتدون البدل ويضعون العطور الغالية ويجلسون على المكاتب، وهي في نفس الوقت في أي مكان أخر غير بلدنا لا علاقة لها بإتساخ الملابس ولا إتساخ الأيدي ولا إتساخ اللسان، فعندهم قد يصعب عليك التفريق بين العامل وبين المهندس أو الطبيب، لو أنك رأيتهم في حفل مثلا أو في أي وقت غير أوقات الدوام، أما هنا وبكل أسف وحسرة تعرف العامل في أي وقت وفي أي مكان، حتى وإن كان في يوم زفافه،  فإن لم تتعرف عليه من ملابسه ستعرفه من طريقة كلامه، وإن لم يتكلم ستعرفه من أصابع يديه.

 

و السؤال مرة أخرى لماذا كتب على صاحب الحرفة المصري أن يكون دائما على هذا الحال وفي هذه الملابس وفي هذه الوضعية الدونية، و الأمر لا يقتصر على مجرد المظهر الخارجي إنما وبكل أسف أمتد ليصل الى شخصية الحرفي، في طريقة كلامه في معاملته في أسلوبه، فبمجرد كونك حرفي يجب أن تتكلم بلغة نابية وتتلفظ بأقذر الألفاظ دون حياء أو خجل، هل رأيت يوما طبيبا يسب ممرضهُ بأمه وأبيه لإنه أعطاه المقص بدلا من المشرط، أو رأيت مهندسا يضرب مساعده بالمفتاح الإنجليزي لإنه جاء متاخرا، الإجابة قطعا لا لإن وبكل أسف هذه الإفعال الهمجية أصبحت حكرا فقط على أصحاب الحرف، والمصيبة أنه لا يتلفظ بها على سبيل الإهانة وإنما تحول الأمر الى أسلوب حياة،  فقد يستخدم نفس اللفظ في حال غضبه و في حال سعادته، وأسلوبه في النطق وموقع  اللفظ من الجملة هو ما يحدد ما المقصود من هذا اللفظ، ولا أدري هل كنت مصيبا عندما قلت أن شكله الظاهري أمتد الى بواطن شخصيته أم أن العكس هو الصحيح…

طوال عمري وأنا على قناعة تامة أن أصحاب الحرف هؤلاء محسوبين على الفنانين، ولا أجد نفسي مبالغا عندما أصفه بالفنان، الا يعد الأرابيسك فن من الفنون، ألا يعد الرسم على النحاس فن من الفنون، ألا تعد صناعة الفخار فن من الفنون، وماذا عن النسيج، وماذا عن الخراطة، وماذا عن كذا وكذا…، أين الحرفي الفنان، أين الحس الفني الذي كان يتمتع به الحرفي الفنان المصري، كيف أصابه هذا التحول الرهيب في ذوقه وفي إتقانه وفي نظافته، على كل حال، يجب أن نؤكد هنا على أن صاحب الحرفة شريك في هذه الجريمة، وأنا أسميها جريمة فهذا أقل ما توصف به.

 

فعندما تعلم أن الحرفي أو الصنايعي المصري كان في يوم من الأيام مضرب للمثل في الإتقان وفي الحرفية وتعلم أنه كانت هناك بعض الحرف التي كانت حكرا على المصريين دونا عن أي حرفي أخر، وأن مصر كانت واحدة من أكبر دول العالم المصدرة للحرفيين في جميع التخصصات وبالتحديد الحرف اليدوية، تعلم حينها أن ما حدث في حق الحرفي المصري جريمة بشعة مكتملة الأركان لا تقل في بشاعتها عن جرائم القتل، فهي فعلا جريمة قتل، وجريمة قتل جماعية، ضحيتها أصحاب الحرف، والجاني هو مجتمع بأكمله بجميع طبقاته وشرائحه بما فيها طبقة الحرفيين أنفسهم، واداة الجريمة هي الجهل والتخلف والطبقية، والتنصل والإستحياء من ثقافتنا ومصريتنا…

ومادمنا قد ذكرنا التبرأ من ثقافتنا ومن طبيعتنا، فيجب الا ننسى الفلاح المصري في هذه الدراسة، وإن كانت قضيته أخطر وأمره أشد واكبر، ولكن الشئ بالشئ يذكر، فعندما تصبح كلمة يا “فلاح” سبة، وصفة الفلاحة وصمة تستوجب الإنكار، فإلى أي منحنى من التغييب إنحرفنا، وإلى أي مستنقع من التغريب إنجرفنا، حتى يستطيعون أن يقنعونا وأن يجعلوا من موطن شرفنا وعزنا سبة ووصمة، فبدل من أن تشعر بالفخر لكونك فلاحا وتتباهى بإنتماؤك للبلد التي علمت الدنيا الزراعة، وبأنك من بلد كان يطلق عليها الإغريق والرومان “سلة طعام العالم” أصبحت تشعر بالخزي.

وبدلا من أن نرى أبناء المدينة يتسابقون الى القرية لينالوا شرف تعلم الزراعة، أقدم حرفة في التاريخ، ومجال ريادتنا وميدان تقدمنا ومصدر عزنا وشرفنا، نجد الفلاح يهرب من القرية الى المدينة راغبا في حسنها وحداثتها وأموالها، منجذبا بسذاجته وراء إغراءاتها المزعومة، ومتحررا من طوق الفقر والجهل الذي طوقوا به يديه وقدميه، فتخلى عن قضيته، ليخلع جلبابه ويلقى بفأسه، ويرتدي القميص والبنطال، ولكنه لم يستطع أن يتخلص من لكنته القروية، فلم يعد قرويا ولم يصبح مدنيا، ليتحول الى مسخ وإلى مثارا للسخرية، والى “فلاح” السبة، بعد أن كان “فلاح” الحرفة، هذه هي الجريمة يا سادة ولا تظن أن أصابع الإتهام بعيدة عنك يا سيدي، فأنت أحد المتهمين في هذه القضية، ودليل الإثبات هو نفسه دليل النفي هو “أنت”…

أسال نفسك هذه الأسئلة ومن إجاباتك عليها ستعرف إذا كنت بريئا أم أنك متهما وتستحق العقاب :

س: هل تستطيع أن تضحي بكل ما تملك من منصب ومن مسكن وتذهب لتعيش في القرية لإعادة قيمة الزراعة ومكانة الفلاح ؟

س : هل ستقبل من إبنك هذا القرار لو لم تستطع أنت أن تتخذه ؟

س : ما هو رد فعلك لو عرفت أن هدف إبنك وحلمه أن يكون كهربائي سيارات ؟

س : كيف ستتصرف في حال تقدم نجار مسلح لخطبة إبنتك ؟

س : كيف ترى صداقة كل من جراح مخ وأعصاب وسباك صحي ؟

س : لمن تكون الأولوية من وجهة نظرك لصاحب الشهادة ام صاحب الحرفة ولماذا ؟

وأسئلة غيرها كثير جدا ستتفجر في رأسك وانت تجاوب على هذا التحقيق، منها ما ستكون تجارب شخصية مررت بها في حياتك، ولكنك ستفاجأ بها وكأنك تراها لأول مرة، حاول أن تجيب عليها بصراحة وستعرف من أنت، وستعرف مدى الطبقية التى نمارسها دون أن نشعر، وستدهشك مدى المصيبة الي تحيط بنا، وستدرك حينها أننا لا نعاني من ثقافة الأيدي المتسخة وحسب، وإنما نعاني أكثر من ثقافة الأفكار المتسخة…

Zaid sayed

About Author

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You may also like

إيران تتجاهل العقوبات الأمريكية
أخبار عامة

إيران تتجاهل العقوبات الأمريكية وتهدد بالرد بالمثل على قرارات ترامب

إيران قامت بالرد على ما تم إصداره من عقوبات أمريكية بحقها بأنها غير ذات أهمية وتتجاهل ما تم فرضه من
أردوغان
أخبار عامة

أردوغان يعترض على تعبير الإرهاب الإسلامي في تصريحات ميركل

أردوغان يعترض على تعبير الإرهاب الإسلامي في تصريحات ميركل في زيارتها لتركيا بعد المحاولة الإنقلابية التي تعرضت لها تركيا في