– إذا كنت تقرأ هذه الكلمات الان فهذا يعني أن السؤال قد أثار فضولك ودفعتك رغبتك في المعرفة الى ان تواصل القراءة ، وأنا لا ألومك في فضولك ولا في رغبتك ، فلقد كان هذا هو نفس شعوري عندما وجدتني فجأة وانا أتجول في شوارع القاهرة الفاطمية ، وبين أزقة وحواري ، وأكوام من القمامة ، أمام لوحة قديمة مكتوب عليها “وكالة بازرعة” . لم أفهم في البداية إلام تشير هذه اللوحة ولا على أي شئ تدل ، وما طبيعة هذا المكان الذي أقف أمامه و ماذا تخبئ هذه الأبواب الخشبية الضخمة خلفها ، لم يسمح لي فضولي بالكثير من الأسئلة وأسرعت بالدخول محاولا أن أجد اجابات مادية لأسئلتي ، وبمجرد دخولي شعرت أني ركبت الة الزمن وانتقلت في لحظات من هذا العالم القبيح الذي كنت أسير فيه بالخارج من لحظات ، و الذي لا يفصلني عنه سوى هذه الجدران وبضعة مئات من السنين ، قد يكون كلامي هذا طبيعيا ومنطقيا ولا مبالغة فيه لو أني كنت أتحدث عن مسجد عتيق ، أو قصرقديم ، أو بيت من بيوت البكوات أو البشوات ، أو حتى سبيل من الأسبلة ، ولكن ما أذهلني وما أدهشني وما كاد بحق أن يبكيني ، أن هذا المكان المهيب الذي أقف فيه الان والذي ترى فيه روعة التصاميم ومهارة الصانع لم يكن أحد بيوت الأمراء ولا منزلا من منازل الأثرياء ، ولم يكن أيضا نزلا أعد للوافدين الأغنياء ، ولا حتى منتدى للشعر والغناء ، إنما كنت واقفا يا سادة في سوقا للبيع والشراء.. وتحديدا في وكالة “بازارعه” . و تقع الوكالة في شارع “التمبكشية” بحي الجمالية ، وكما جرت العادة على تسمية الشوارع بأسماء الحرف فسمي هذا الشارع بهذا الأسم نسبة الى تجارة “التمباك” أو التبغ ، وهو احد أفرع شارع المعز وكان يسمى الشارع السلطاني
حيث كان مشتهرا بممتلكات السلاطين من مساجد وقصور وبيوت ، ويرجع تاريخ إنشائها الى القرن السابع عشر الميلادي ، وتعتبر نموذجا فريدا للوكالات في العصر العثماني ، وكانت هناك أهتماما بما يسمى “العمارة التجارية” ، فبلغت الوكالات في العصر العثماني حوالي عشر وكالات ، وكانت في البداية معدة لبيع الأخشاب ، وكان يطلق عليها وكالة “الكيخيا” نسبة الى “حسن كتخذا” ، الملقب با “الكيخيا” ، وظلت تعرف بهذا الأسم حتى أشتراها “محمد بازارعه” في القرن التاسع عشر ، وهو تاجر يمني ، وحملت الوكالة اسمه من حينها وحتى الان ، وخصصها لبيع البن اليمني والصابون النابلسي والعنبر واللوز ، ويعتبر “محمد بازارعه” هو أول من أدخل تجارة البن الى مصر ، ومن ناحية التصميم المعماري فالوكالة عبارة عن جزئين ، الجزء الأول : تجاري وهو عبارة عن فناء كبير على شكل مستطيل تصطف المحلات على جوانبه وهو مكون من الطابقين الأول و الأرضي .
أما الجزء الثاني : فهو سكني ، ويتكون من طابقين أعلى المحلات ، وتتكون كل وحدة سكنية من قاعة أستقبال ومعيشة ، ومطبخ ودورة مياة ، وكانت هذه الأجنحة السكنية معدة للتجار الأجانب الوافدين من الأقاليم البعيدة أو من بلاد خارج مصر ، وتطل هذه الغرف على الصحن من خلال مشربيات ونوافذ ، وتوفر لهم فيها الرفاهية وسبل الراحة ، فكانت هناك غرفا خاصة للتجار المتزوجين وكانت أجنحة منعزلة لتوفير أكبر قدر من الخصوصية ، كذلك ملحق بها مكان للدواب والخيول الخاصة بالقوافل القادمة من اليمن والشام ، ومخازن لحفظ البضائع ، وكان لكل جزء من الجزئين التجاري والسكني مدخل خاص به ، فهي بإختصار مجمع تجاري وسكني متكامل
ولا تزال الوكالة الى الان محتفظة بجمالها ورونقها ، وشكلها المميز بمشربياتها ، ومدخلها الواسع بضلفتيه الخشبيتين ، وشاهدة على عصر من عصور الفن والأبداع ، وبعد أنتهاء جولتي داخل الوكالة وعندما خرجت الى الشارع ووقعت عيني على الأسواق والشوارع المرصوفة بالقمامة ، أدركت حينها مدى الهوة بيننا وبينهم ، ومدى الفارق الشديد بين جيل وجيل ، وبغصة شديدة في حلقي ، قلت بيني وبين نفسي “رحم الله جيلا كانت أسواقهم أثار ، وغفر الله لجيل جعل من أثارهم أسواق”…