بقلم الباحث / محمود كرمي
أصبحت القارة الأفريقية مسرحا للصراعات الأيديولوجية بعد مرحلة الإستقلال ، ثم تغيرت أشكال الصراعات فترة ما بعد الحرب الباردة إلى صراعات داخل الدولة الواحدة أو صراعات إقليمية ، نتج عنها جميعا المشكلات الإجتماعية و الإقتصادية ، ما أهدر طاقة الدول الأفريقية ، و أوقف حركة التنمية ، إضافة إلى مقتل و إصابة الملايين ، و أصبحت أراضي الدول التي شهدت تلك النزاعات المسلحة ملاذا للجماعات الإرهابية ، و مسرحا لممارسة الجرائم الدولية . و تعد النزاعات المحلية و الإقليمية نتاجا لعدة متغيرات في البيئة الداخلية و الخارجية للدول الأفريقية . و التي يمكن ردها إلى عوامل تاريخية ترتبط أكثر بالإرث الإستعماري ، و عوامل سياسية تتمثل في النظم الحاكمة في الدول الأفريقية و القوى السياسية فيها .
إضافة إلى عوامل إقتصادية و إجتماعية و ثقافية ترتبط بالإثنيات و القوميات المختلفة ، و تؤثر في توجيه المعارضة الداخلية ضد النظم الحاكمة ، و بكافة الوسائل الممكنة لديها . و لعل هذه العوامل الداخلية ترتبط بمسألة هيمنة نخبة أو جماعة على عوائد الموارد الطبيعية بصورة عامة و أهمها النفط و المعادن ، و في المقابل يتم تهميش أو إقصاء الجماعات الأخرى . و هذه الجماعات المهمشة أو الأقليات تتخذ بدورها من التمرد المسلح وسيلة ، من أجل تحقيق مطالبها الخاصة بالحكم الذاتي و اكتساب الثروة و النفوذ . كذلك نجد من العوامل الخارجية ما هو مدفوع بالمصالح الإستراتيجية للدول الكبرى ، التي تسعى لاكتساب النفوذ ، و استغلال الموارد ، و تأمين خطوط التجارة
و قد تعددت أشكال التدخلات الخارجية ، فمنها ما يتخذ الصفة العسكرية المباشرة ، أو التدخلات الإستخباراتية و أهمها تأجيج الإحتجاجات و الثورات ، أو دعم الإنقلابات ، أو دعم شبكات الجريمة المنظمة و الإرهاب الدولي . و يعد الإرهاب أحد أكثر الظواهر التي لم يتحدد مفهومها ضمن تعريف شامل و بشكل واضح . خاصة و أن هذا المفهوم في وقتنا الحالي يتشكل بتأثير من الدعاية الرسمية و غير الرسمية ، و مع نزوع أطراف الصراعات المحلية و الإقليمية و الدولية إلى وصف الخصم بالإرهابي ، و مع تعدد ثقافات و انتماءات متبعي الظاهرة ، فإن التعريف بالإرهاب لم يخرج بصورة علمية مقبولة . نذكر منها – على سبيل المثال – أنه شكل غير رسمي من الحرب السرية تقوم بها جماعات أصغر من الدولة ، بهدف تغيير سياسات أو حكام أو حتى شكل الحكومة و أيديولوجيتها ، أو التأثير في أعمال جماعة أخرى من السكان . أو يعرف بأنه الإستخدام الهادف للعنف أو التهديد باستخدامه ، بغرض فرض سلوك معين على الضحايا أو المخاطبين . هذا الغموض حول المصطلح ، يعد أحد أسباب إساءة فهم طبيعة الإرهابي ، و التهديد الذي يمكن أن يحدثه ، و لكن يمكن استخلاص نتائج عامة حول الصفات المشتركة التي تتوافر لديهم جميعا ، منها صفة الشباب و الحيوية ، و الإلتزام ، كما أنهم نذروا أنفسهم لأجل قضية ما . و الإرهابي قد لا تساوره شكوك حول دوره كمحارب ، و يظل مقتنعا بأنه جندي يقاتل في حرب ، حتى دون أن يرتدي زيا عسكريا ، و دون أن يتلقى التدريب بصورة نظامية . و رغم التعددية في التعريف ، فإن بعض الباحثين ذهب إلى تصنيف الإرهاب ضمن ثلاثة أنواع : إرهاب الدول ، و إرهاب الأفراد ، و إرهاب المنظمات الإرهابية .
فالنوع الأول إرهاب الدول ، يعبر عنه بالإستخدام التعسفي للقوة المتاحة للدولة أو مؤسساتها ضد مواطنيها ، أو ضد أمن و سلامة و سيادة دولة أخرى ، و السكان المدنيين فيها . و باستخدام الوسائل المحرمة لإبادة الأفراد لأسباب عنصرية و سياسية و إجتماعية ، أو إيجاد ظروف معاشية تتنافى و حقوق الإنسان ، بما فيها من التهجير بالقوة . أما النوعان الآخران فلا يمكن بأي حال التمييز بينهما ، إذ أن العمليات الإرهابية هي في الغالب منظمة و مدبرة ، قلما يستطيع فرد واحد القيام بها ، بل تتم عبر جماعات و منظمات سواء كانت صغيرة أم كبيرة . و حول هذه القضية و الأفكار السابق ذكرها ، يعرض فيلم “وحوش بلا أمة” Beasts Of No Nation ، إحدى صور الإرهاب في القارة الأفريقية ، و هو الإرهاب الدولي . حيث يتعرض لهذا النمط الجديد من الإرهاب ، فالجماعات الإرهابية وفق هذا النمط توصف بأنها عابرة للجنسيات أو متعددة الجنسيات ، و لا تجمعها قضايا قومية ، و إنما أيديولوجيات دينية أو سياسية محددة . و الفيلم إنتاج أكتوبر 2015، عن قصة تحمل نفس الإسم للكاتب الأمريكي ذو الأصل النيجيري Uzodinma Iweala “أوزودينما ايويلا” ، و من إخراج كاري فوكوناجا Cary Joji Fukunaga إندلعت الحرب الأهلية في إحدى المناطق الحدودية في غرب أفريقيا (غير محددة) .
و مع سقوط الحكومة الرسمية و تحالف المتمردين مع قوات من الجيش تتوجه هذه القوات نحو القرى خاصة في المناطق العازلة و الحدودية ، ما أدى إلى فرار الكثيرين بحثا عن الأمان . أدت تلك الحوادث إلى وقوع الطفل “أغو” و غيره من الأطفال في يد فصيل من المتمردين ، و تم تجنيدهم للمشاركة في أعمال العنف و التخريب ، و ما إليها . و تدور الحوادث حول رحلة “أغو” و الصغار الآخرين في ظل أعمال العنف و التخريب من قبل التنظيم الإرهابي . إضافة إلى محاولة الإستيلاء على أحد مناجم الذهب ، على أمل إستمرار تمويل أنفسهم بالمعدات و الذخيرة . إلا أن قوات الأمم المتحدة ، و قوات الإيكوموج* (يرمز إليها في الفيلم بالإيكومود) ، تقوم بمحاصرتهم ، و إجبارهم على الإستسلام . في النهاية ، يتم إرسال “أغو” و آخرين إلى إحدى المدارس التبشيرية في إقليم آخر بالبلاد ، من أجل توفير الراحة و السلامة ، و العمل على تمكينهم أو تأهيلهم للإندماج في المحيط . على المستوى العام بالنسبة للدول الأفريقية – جنوب الصحراء – فإن هناك معان متعددة للمواطنة تحدد هوية الفرد ، و هو ما يجعله في وضع فرعي – و بالتالي هامشي – داخل الدولة . و غياب الحكم الديمقراطي يجعل الحياة السياسية تتعلق بممارسة السلطة ، لذا فالأفراد داخل الدولة الفرعية لديهم وعي بهويتهم و يسعون لتحقيق السلطة للسيطرة على الآخرين ، و في هذا السياق يتصاعد الحديث حول التهميش للجماعات الأخرى و استبعادهم من السلطة ، فتكون المحصلة الصراع و الإرهاب . و قد تتحول بالتالي إحدى الجماعات العرقية إلى جماعة قومية و تضع الجماعات الأخرى في وضع هامشي . و يكون الخيار الوحيد أمامها هو تكوين جبهة مشتركة . و تكون المحصلة لكل ذلك تفجير الصراعات الداخلية التي يصعب تسويتها على السلطة . يظهر الفيلم كيف أصبح الإرهابيون ذوي مهارة فائقة في استعمالهم العنف لجذب الإنتباه ، و في كثير من الحالات تكون عمليات القتل ، و أعمال التخريب ذات أهمية في تدعيم مكانة الجماعة أو التنظيم الإرهابي ، كما تساعد على نشر رسالتها .
و الغريب أن تجد هذه الرسائل قد اجتذبت أنصارا متعاطفين للقضية ، فالحرب السيكولوجية لها دورها الهام لتحطيم المعنويات لدى القوى المعادية و الحكومات . كما أظهرت الصور نتائج النزاعات من إنتهاكات لحقوق الإنسان ، وصلت إلى حد الإبادة الجماعية ، و التعذيب و اغتصاب الأطفال و النساء ، و انتشار ظاهرة اللاجئين و أضرارها . فضلا عن ظاهرة تجنيد الأطفال في الصراعات المسلحة . و كيف أصبح العنف مسألة متوطنة لدى هذه المجتمعات الأفريقية لدرجة أن أصبح من أمور العادة . إضافة لما سبق فإن عرض الفيلم في عام 2015 تزامن مع قمة الإتحاد الأفريقي في جوهانسبرج والتي تصدرت قضايا الإرهاب جدول أعمالها ، حيث شهدت القارة الأفريقية – وفقا لمؤشر الإرهاب العالمي – تصاعدا ملحوظا في عدد الهجمات الإرهابية ، خاصة مع تواجد أخطر الشبكات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة ، مثل “بوكو حرام” و “الشباب المجاهدين” و “تنظيم القاعدة” ، و غيرها من فصائل السلفية الجهادية في بلاد المغرب العربي و غربي أفريقيا ، سيما و أن الفضاءات الواسعة في المناطق الحدودية تهيء بيئة حاضنة للجماعات المسلحة و التنظيمات المتطرفة . و شهدت بداية نفس العام أيضا رد فعل رسمي لمجلس الأمن تجاه بوكو حرام ، حيث أصدر المجلس بيانا بالتنسيق مع الولايات المتحدة و فرنسا ، أعلن خلاله عن تكوين قوة مهام مشتركة متعددة الجنسيات . لا شك أن الدعاية وفق هذا النمط باستخدام الصور و المشاهد – هي واقعية بطبيعة الحال – تتجه نحو بلورة مفهوم الدولة الفاشلة غير القادرة على التصدي للمشكلات الأمنية و السياسية التي تواجهها ، و هو ما يمثل بدوره بروز دور الدول الغربية المنقذة ، عبر تقديم الدعم العسكري و الاستخباراتي في قضايا تمس الأمن الداخلي و الإقليمي للدول الأفريقية . * الإيكوموج ECOMOG Economic Community of West African States Monitoring Group هي قوات مراقبة وقف إطلاق النار و التي تتبع الجماعة الإقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) ، و هذه القوات الغرض منها تعزيز سبل الدفاع المشترك ، و تحقيق السلم و الأمن الإقليمي لدول الغرب الأفريقي ، و قد قامت بتنفيذ عمليات ناجحة لحفظ السلام كما في ليبريا 1990-1996 و سيراليون 1997